بتاريخ 17.7.2006، اجتاحت قوات الجيش الإسرائيلي بلدة بين حانون، الواقعة شمالي قطاع غزة. ويتضح من التحقيق الأولي الذي أجرته بتسيلم حول العملية أن الجنود سيطروا خلال العملية على بنايتين في البلدة واستغلوا جزء من المواطنين القاطنين فيها كدروع بشرية.
بعد السيطرة على البنايتين، قام الجنود باحتجاز ستة مواطنين من السكان، من بينهم قاصرين، في غرف الدرج في البنايتين لمدة 12 ساعة تقريباً، على مدخل الغرف التي كان الجنود يتواجدون فيها. هذا في الوقت الذي جرى فيه تبادل مكثف لإطلاق النار بين الجنود والمسلحين الفلسطينيين. بالاضافة الى ذلك، فقد أرغم الجنود ربة بيت من سكان البناية بالسير أمامهم خلال استطلاع الشقق في إحدى البنايتين.
إن تعاليم القانون الإنساني الدولي تحظر استعمال المدنيين كدروع بشرية من خلال وضعهم الى جانب الجنود أو الى جانب المنشآت العسكرية، بقصد الاحتماء بهم من الهجوم، أو من خلال ارغامهم على القيام بمهام عسكرية خطيرة.
في أعقاب التحقيق، توجهت "بتسيلم" الى النيابة العسكرية طالبة الشروع الفوري بالتحقيق في الحادثة، من قبل الشرطة العسكرية وتقديم المسئولين، طبقا لنتائج التحقيق، الى العدالة.
تسلسل الأحداث
في اطار حملة "أمطار الصيف" التي بادر إليها الجيش الإسرائيلي في أعقاب خطف الجندي جلعاد شليط، قامت قوات من سلاح الهندسة، المدرعات والمشاة، يوم 17.7.2006، في ساعات الصباح الباكر، باجتياح بلدة بيت حانون، شمالي قطاع غزة، التي يعيش فيها حوالي 32.000 مواطن. وطبقا لبيان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، وخلال العملية "أصاب الجنود حوالي 20 فلسطينيا مسلحاً". وجاء في البيان أيضا أن "القوات قامت بأعمال هندسية من أجل ضرب البنى التحتية ونشاط المنظمات الارهابية، واعتقلت عددا من المطلوبين ..... خلال عمليات المسح، عثرت القوات على ثلاثة بنادق كلاشينكوف، بندقية من نوع كرابين، مسدس وذخيرة".
قرابة الساعة السادسة صباحاً، وصلت قوة تضم ناقلات جند مصفحة وجرافات الى بنايتين تتكون كل واحدة منهما من أربعة طوابق وتقعان جنبا الى جنب في وسط البلدة، على مقربة من مسجد النصر. قامت الجرافات بهدم الجدار الحجري الذي يحيط بالبنايتين، وبعد ذلك هدمت أحد الجدران الخارجية في الطابق الأرضي في البنايتين. في الطوابق الثلاثة الأولى من إحدى البنايات تسكن عائلة كفارنة الموسعة. أما في الطابق الرابع من هذه البناية فتوجد مكاتب وكالة الأنباء الفلسطينية "رامتان". أما في الطوابق الأربعة من البناية الثانية فتسكن عائلة علي الموسعة.
قام جزء من القوة، التي تضم 12 جنديا وفقا لتقديرات أحد الشهود، باقتحام المبنى الخاص بعائلة كفارنة عن طريق الجدار المهدوم، وبالتزامن مع ذلك، إطلاق النار وإلقاء القنابل الصوتية. في هذا الوقت، كان يمكث في البناية 25 شخصا، من بينهم 11 ولدا، بعضهم من أبناء عائلة علي الذين انتقلوا الى البناية المجاورة مع دخول قوات الجيش الإسرائيلي الى بيت حانون. طلب الجنود من جميع السكان الحضور الى الصالون في الطابق الأرضي وقاموا بتفتيشهم تفتيشا بدنيا. ومن خلال التهديد بالسلاح، أجبر أحد الجنود عزة الكفارنة، 43 عاما، بمرافقته في تفتيش كل طابق في البناية وفتح أبواب الشقق والغرف من أجله. في ختام التفتيش، أمر الجنود جميع السكان بمغادرة البناية باستثناء ثلاثة.
أثناء خروج السكان من البناية، دارت مواجهات عنيفة بين قوات الجيش الإسرائيلي وبين المسلحين الفلسطينيين. وفي شهادتها لـ "بتسيلم" قالت عزة كفارنة، أنه على ضوء الوضع طلبت من الجنود أن يسمحوا لها بالبقاء في البناية، غير انهم رفضوا ذلك. ولهذا السبب، كما تروي الشاهدة "اضطررنا الى الانبطاح على الأرض والزحف حتى البناية المجاورة ...".
الثلاثة الذين أُرغموا من قبل على البقاء في البناية هم ابنا عزة كفارنة، حازم، 14 عاما، وقصي، 16 عاما، وكذلك ابن أخيها، خالد، 23 عاما. تم إحضار الثلاثة الى بيت الدرج، على مدخل الشقة في الطابق الثالث، حيث كان يمكث الجنود. وقد جلس الثلاثة في هذا المكان حتى الساعة 22:00 تقريبا، قبل مغادرة الجنود المكان بـ 45 دقيقة. طيلة هذا الوقت دار تبادل لإطلاق النار بين الجنود داخل البناية وخارجها وبين المسلحين الفلسطينيين. تجدر الاشارة الى أن غرفة الدرج التي كان السكان يمكثون فيها لم تكن معرضة للنيران بصورة مباشرة. قُبيل انتهاء الحادثة أمر الجنود الشبان الثلاثة بالنزول أمامهم على الدرج حتى مدخل البناية.
بالتزامن مع السيطرة على البناية الخاصة بعائلة كفارنة، سيطر قسم آخر من القوة على البناية التابعة لعائلة علي. في هذا الوقت لم يكن يمكث في البيت سوى الأم عائشة، 60 عاما، وثلاثة من أبنائها، وهم حازم 29 عاما، طارق، 25 عاما وعماد 41 عاماً. وقد جرى إدخال عائشة علي الى غرفة داخلية في الطابق الأرضي وبقيت هناك وهي مكبلة بيدها حتى انتهى الحادث.
في هذا الوقت، أمر الجنود الأبناء الثلاثة بنزع ملابسهم وقاموا بتفتيشهم. بعد ذلك، قام الجنود بتكبيل أيديهم وراء ظهورهم وتعصيب عيون الثلاثة. طبقا لإفادة أحد الأبناء، فقد قام الجنود بشد القيود بهدف الإيلام. وقد قام أحد الجنود برفس حازم في صدره بعد أن اشتكى من الوجع. ومع هذا، وبعد أن بدأت يداه بالانتفاخ والنزف نتيجة ضغط القيود، قام أحد الجنود باستبدال القيود.
بناء على طلب الجنود، فقد قام عماد، الذي يخدم في الشرطة الفلسطينية، مع بدء الحادث، بتسليم سلاحه الشخصي. ونظرا لعدم وجود فرد آخر من أفراد العائلة والذي يخدم هو أيضا في الشرطة الفلسطينية، فقد قام الجنود بالتفتيش عن سلاح إضافي لم يتم العثور عليه في نهاية المطاف. ومع هذا، أثناء عمليات التفتيش قام الجنود بتحطيم الكثير من الأثاث وزرع الخراب والدمار في عدد من الشقق.
بعد التفتيش، قام أحد الجنود بأخذ الهاتف الخلوي التابع لحازم، ثم اتصل بـ 4 أشخاص أرقامهم محفوظة في ذاكرة الجهاز. ويتضح من إفادة حازم أن الجندي قال في المحادثة مع كل واحد من الذين اتصل بهم "إذا أردتم إطلاق سراح حازم، طارق وعماد يجب عليكم إحضار سلاحكم الى البناية".
وطبقا لإفادة حازم، فإن الأشخاص الأربعة الذين اتصل بهم الجندي هم أصدقاء في العمل في وكالة الأنباء الفلسطينية "رامتان" تم اختيارهم عشوائيا، ولا يحملون أي نوع من السلاح.
قرابة الساعة الثامنة صباحا، تم أخذ الثلاثة الى غرفة الدرج، قرب مدخل الشقة في الطابق الثالث حيث يتركز الجنود. بقي الثلاثة في غرفة الدرج لغاية الساعة 20:45 وأيديهم مكبلة الى الوراء وعيونهم معصوبة، عندها غادر الجنود البناية. في لحظة ما حاول أحد الإخوة، طارق، أن يتحرك من مكانه، وعندها قام أحد الجنود بضربه على صدره وهدده بقتله. أثناء جلوسهم في بيت الدرج، جرى تبادل عنيف لإطلاق النار بين الجنود الذين كانوا يمكثون في البناية وبين المسلحين الفلسطينيين. وعلى خلاف الوضع في البناية المجاورة، فإن الكثير من العيارات النارية التي أُطلقت من خارج البناية اخترقت بيت الدرج عن طريق الشباك وأصابت الجدران، فوق رؤوس السكان الثلاثة. وقد قام الجنود بسحب أحد الإخوة، عماد علي، في نهاية الواقعة وما يزال لغاية اليوم رهن الاعتقال.
خلال الحادثة، اتصلت عزة الكفارنة مع "بتسيلم" وطلبت تدخل "بتسيلم" من أجل إطلاق أبناء أسرتها الذين يحتجزهم الجنود. في أعقاب ذلك، اتصل نجيب أبو رقية، ممثل "بتسيلم" الى مكتب التنسيق والارتباط التابع للجيش الإسرائيلي في غزة وحذر من مغبة ما يحدث. المجندة التي تلقت المكالمة قامت بتحويل ممثل "بتسيلم" الى المستشار القضائي لمكتب التنسيق والارتباط، الملازم حاييم شربيط. وبعد بحث الموضوع، أعلن الأخير أنه لا يقدر على فعل شيء في هذا الشأن لأن الحادث "غير معروف له".
الخلفية القانونية
تشير ملابسات الحادث الى أن الجنود سيطروا على البنايات واستغلوا السكان كدروع بشرية: وضع السكان في بيوت الدرج، قرب الغرف التي مكث فيها الجنود، تم عن عمد من أجل ردع المسلحين الفلسطينيين عن مهاجمة المبنى أو بقصد جعل السكان فاصلا ما بين الجنود وبين المسلحين الفلسطينيين في حالة نجاح الفلسطينيين بالدخول الى المبنى ومحاولة إطلاق النار عليهم؛ الاستعانة بربة بيت من سكان إحدى الشقق من أجل فتح الأبواب، نابعة على ما يبدو من الخشية من اختباء أشخاص آخرين في هذه الشقق وإطلاق النار فور فتح الأبواب.
إن القانون الإنساني الدولي الذي يحدد القواعد السارية أثناء الصراع المسلح يلزم جميع الأطراف المشاركة في القتال بالتمييز ما بين المقاتلين والمدنيين، من خلال الحرص على الحفاظ على حياة وكرامة المدنيين. وتحدد اتفاقية جنيف الرابعة (البند 27) أن المدنيين الذين يجدون أنفسهم بيد الجيش الخصم "يستحقون في كل الأحوال حسن المعاملة تجاه أبدانهم، وكرامتهم .... ويجب أن يبقى التعامل معهم إنسانيا دائما، ويجب حمايتهم بصورة خاصة من أية أعمال عنف أو التهديد بالعنف ...".
وفي هذا الإطار، فإن اتفاقية جنيف الرابعة (البند 28) تفرض منعا صريحا بخصوص استعمال المدنيين كدروع بشرية من خلال إرغامهم على الوقوف الى جانب الجنود أو المنشآت العسكرية بهدف الاحتماء بهم من الهجمات. إن التفسير الرسمي للميثاق، يصف هذا الأداء، الذي كان ساريا خلال الحرب العالمية الثانية، بأنه "قاس وبربري". كما أن الاتفاقية (البنود 31- 51) تحظر أيضا استعمال الضغط البدني أو النفسي على المدنيين وعلى استعمالهم قسراً لتنفيذ المهام العسكرية.
على الرغم من هذه الممنوعات والمحاذير، وعلى مدار فترة طويلة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، وخاصة خلال حملة "السور الواقي" في نيسان 2002، استعمل الجيش الإسرائيلي المدنيين الفلسطينيين بصورة منهجية كدروع بشرية، من خلال إرغامهم على القيام بمهام عسكرية مرتبطة بخطر محقق على حياتهم. وفقط في أعقاب الالتماس الذي تقدمت به منظمات حقوق الإنسان ضد هذه الممارسة، في أيار 2002، أصدر الجيش الإسرائيلي أمرا عاما يحظر استعمال الفلسطينيين كدروع بشرية حية ضد النار أو العمليات من قبل الطرف الفلسطيني.
في أعقاب هذا الأمر الصادر انخفض انتشار الظاهرة بصورة ملحوظة. ومع هذا، وطبقا لتفسيرات الجيش، فإن الاستعانة بالسكان الفلسطينيين لغرض تسليم تحذير الى المطلوب الذي يتحصن في مكان ما، بموافقة المواطن، لا يندرج تحت استعمال "الدرع الحي". غير أن هذه الممارسة سقطت في نهاية الأمر في أعقاب القرار الصادر عن محكمة العدل العليا بأن هذه الممارسة لا تتفق مع تعليمات اتفاقية جنيف الرابعة.
على هذه الخلفية، من الواضح بلا شك أن ممارسات جنود الجيش الإسرائيلي تجاه السكان الفلسطينيين في بيت حانون كانت بمثابة خرق فاضح لقواعد القانون الإنساني والدولي وكذلك مخالفة لأوامر الجيش الإسرائيلي. وقد توجهت "بتسيلم" الى النيابة العسكرية طالبة الشروع الفوري بالتحقيق في الحادثة من قبل الشرطة العسكرية، وتقديم المسئولين عن الأعمال المرفوضة، طبقا لنتائج التحقيق، الى العدالة.